الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن في خلق السماوات والأرض} وأظهارهما للعيان، لَدلائل واضحة على وجود الصانع، وكمال قدرته، وعلمه، لذوي العقول الكاملة الصافية، الخالصة من شوائب الحس والوهم. قال البيضاوي: ولعل الاقتصار على هذه الثلاثة في هذه الآية؛ لأن مناط الاستدلال هو التغير، وهذه متعرضة لجملة أنواعه، فإنه- أي التغير- إما أن يكون في ذات الشيء، كتغير الليل والنهار، أو جزئه، كتغير الناميات بتبدل صورها، أو لخارج عنها، كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلٌ لمن قَرَأَهَا ولَمْ يَتَفَكَرْ فِيْهَا». الإشارة: الخلق هو الاختراع والإظهار، فإظهار هذه التجليات الأربعة يدل على الحقّ- تعالى- تجلى لعباده بين الضدين، بين النور والظلمة، بين القدرة والحكمة، بين الحس والمعنى، وهكذا خلق من كل زوجين اثنين، ليقع الفرار من إثنينية حسهما إلى فردية معناهما، ففرّوا إلى الله، فالسماوات والنهار نورانيان، والأرض والليل ظلمانيان، ففي ذلك دلالة على وحدة المعاني، فلا تقف مع الأواني، وخُض بحر المعاني، لعلك تراني. وبالله التوفيق.
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)} يقول الحقّ جلّ جلاله: في وصف أولي الألباب: هم {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم}، أي: يذكرونه على الدوام، قائمين وقاعدين ومضطجعين، وعنه- صلى الله عليه وسلم-: «منْ أرادَ أن يَرْتَع في رِيَاضِ الجَنة فليُكثْر ذِكرَ الله» وقيل: يُصلّون على الهيئات الثلاث، حسب الطاعة لقوله عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين، وكان مريضاً: «صَلِّ قائِماً، فإِنْ لَمْ تَسْتَطْع فقاعِداً، فإنْ لَمْ تَسْتَطعْ فقاعِداً، فإنْ لَمْ تَستطِعْ فعلى جَنْبِكَ وتُومئ إيماء». {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض} استدلالاً واعتباراً، وهو أفضل العبادات قال صلى الله عليه وسلم: «لا عبادة كالتفكر»؛ لأن المخصوص بالقلب، والمقصود من الخلق، وعنه صلى الله عليه وسلم: «بينَمَا رجلٌ مُسْتَلقٍ على فِرَاشهِ فَنَظَر إلى السماءِ والنُجومِ، فَقَال: أشْهدُ أن لَكِ خَالِقًَ، اللُهمَّ اغفرْ لي، فَنَظَر اللّهُ إِليه فَغَفر لَهْ» وهذا دليل واضح على شرف علم الأصول وفضل أهله. قاله البيضاوي. وسيأتي مزيد من كلام على التفكر في الإشارة إن شاء الله. فلما تفكروا في عجائب المصنوعات، قالوا: {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} أي: عبثاً من غير حكمة، بل خلقته لحكمة بديعة، من جملتها: ان يكون مبدأ لوجود الإنسان، وسبباً لمعاشه، ودليلاً يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك، لينال الحياة الأبدية، والسعادة السرمدية في جوارك، {سبحانك} تنزيهاً لك من العبث وخلق الباطل، {فَقِنَا عذابَ النار} التي استحقها من أعرض عن النظر والاعتبار، وأخلّ بما يقتضيه من أحكام الواحد القهار، {وما للظالمين من أنصار} يمنعونهم من دخول النار. ووضع المظهر موضع المضمر؛ للدلالة على أن ظلمهم سبب لإدخالهم النار، وانقطاع النصرة عنهم في دار البوار. {ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان}، وهو الرسول العظيم الشأن، أو القرآن؛ قائلا: {أن آمنوا بربكم} ووحدوه، فأجبنا نداءه وآمنا، {ربنا فاغفر لنا ذنوبنا} الكبائر، {وكفر عنا سيئاتنا} الصغائر، {وتوفنا مع الأبرار} المصطفين الأخيار، مخصوصين بصحبتهم، معدودين في زمرتهم، وفيه تنبيه على أنهم يُحبون لقاء الله فأحب الله لقاءهم، {ربنا وآتنا ما وعدتنا على} تصديق {رسلك} من الثواب، أو على ألسنة رسلك من الفضل والرحمة وحسن المآب، سألوا ما وُعدوا على الامتثال، لا خوفاً من إخلاف الوعدن بل مخافة ألاَّ يكونوا موعودين لسوء عاقبة، أو قصور في الامتثال، أو تعبداً، أو استكانة. قاله البيضاوي. {ولا تخزنا يوم القيامة} أي: لا تُهِنَّا بسبب تقصيرنا، {إنك لا تخلف الميعاد} بإثابة المؤمن وإجابة الداعي، أو ميعاد البعث والحساب، وتكرير {ربنا}؛ للمبالغة في الابتهال، والدلالة على استقلال المطالب وعلو شأنها، ففي بعض الآثار: (من حزبه أمر فقال خمس مرات: «ربنا»، أنجاه الله مما يخاف). قاله البيضاوي. الإشارة: قدَّم الحق الذكر على الفكر على ترتيب السير، فإن المريد يُؤمَر أول أَمرِهِ بذكر اللسان، حتى يفضي إلى الجنان، فينتقل الذكر إلى القلب، ثم إلى الروح، وهو الفكر، ثم إلى السر، وهو الشهود والعيان، وهنا يخرس اللسان، ويغيب الإنسان في أنوار العيان، وفي ذلك يقول القائل: مَا إنْ ذَكَرْتُكَ إلاَّ هَمَّ يَلْعَنُنِي *** سِرِّي ورُوحِي وقَلْبي عِنْدَ ذِكرَاكَ حَتَّى كَأنَّ رقيباً مِنكَ يَهْتِفُ بِي: *** إيَّاكَ: وَيْحَكَ والتَّذْكَارَ! إيَّاكَ! أمَا تَرَى الحَقَّ قَدْ لاحَتْ شَوَاهِدُهُ *** وَوَاصَلَ الكُلَّ مِنْ مَعْنَاهُ مَعْنَاكَ فإذا بلغ العبد هذا المقام- الذي هو مقام الإفراد- اتحدت عنده الأوراد، وصار ورداً واحداً، وهو عكوف القلب في الحضرة بين فكرة ونظرة، أو إفراد القلب بالله، وتغيبه عما سواه. قال في الإحياء في كتاب الأوراد: الموحد المستغرق الهم بالواحد الصمد، الذي أصبح وهمومه هم واحد، فلا يحب إلا الله، ولا يخاف إلا منه، ولا يتوقع الرزق من غيره، ولا ينظر في شيء إلا يرى الله فيه، فمن ارتفعت رتبته إلى هذه الدرجة، لم يفتقر إلى ترتيب الأوراد واختلافها، بل ورده بعد المكتوبات ورد واحد، وهو حضور القلب مع الله في كل حال، فلا يخطر بقلبه أمر، ولا يقرع سمعه قارع، ولا يلوح لنظره لائح، إلاَّ كان له فيه عبرة وفكرة ومزيد، فلا محرك ولا مسكن إلا الله. فهؤلاء جميع أحوالهم تصلح أن تكون سبباً لازديادهم، فلا تتميز عندهم عبادة عن عبادة، وهم الذين فرّوا إلى الله كما قال تعالى: {ففرّوا إلى الله}، وتحقق فيهم قوله: {إني ذاهب إلى ربي}، وهذه الدرجة منتهى درجة الصديقين، ولا ينبغي أن يغتر المريد بما يسمعه من ذلك، فيدعيه لنفسه، ويفتر عن وظائف عباداته، فذلك علامته ألا يحس في قلبه وسواساً، ولا يخطر بقلبه معصية، لا يزعجه هواجم الأحوال، ولا يستفزه عظائم الأشغال، وأنى تكون هذه المرتبة!. ه. قلت: قوله: [لا يخطر بقلبه معصية] غير لازم؛ لأن قلب العارف مرسى للتجليات النورانية والظلمانية لكنها تقل ولا تسكن. وقال في موضع آخر: وأما عبادة ذوي الألباب فلا تجاوز ذكر الله تعالى والفكر فيه؛ حُبّاً لجلاله وجماله، وسار الأعمال تكون مؤكدات. قال: والعامل لأجر الجنة؛ درجته درجة البُلْه، وإنه لينالها بعمله؛ إذ أكثر أهل الجنة البله. ه. وقال في كتاب كيمياء السعادة: وقد غلط من ظن أن وظائف الضعفاء كوظائف الأقوياء، حتى قال بعض مشايخ الصوفية: من رأني في الابتداء، قال: صار صديقاً، ومن رآني في الانتهاء، قال: صار زنديقاً، يعني أن الابتداء يقتضي المجاهدة الظاهرة للأعين بكثرة العبادات، وفي الانتهاء يرجع العمل إلى الباطن، فيبقى القلب على الدوام في عين الشهود والحضور، وتفتر ظواهر الأعضاء، فيظن أن ذلك تهاون بالعبادة، وهيهات هيهات!!، فذلك استغراق لمخ العبادات ولبابها وغياتها، ولكن أعين الخفافيش تكل عن درك نور الشمس. ه. قال شيخ شيوخنا- سيدي عبد الرحمن العارف- بعد نقل كلام القشيري في هذا المعنى: وما أشار إليه ظاهر في أن أهل القلوب لا يتعاطون كل طاعة. وإنما يتعاطون من الطاعات ما يجمعهم ولا يفرقهم. ولذلك قال الجنيد: أحب للصوفي ألا يقرأ ولا يكتب؛ لأنه أجمع لهمه، قال: وأحب للمريد ألا يشتغل بالتكسب وطلب الحديث؛ لئلا يتغير حاله. ه. قلت: ومن رزقه الله شيخ التربية فما عيَّنه له فهو عين ذكره، يسير به كيفما كان. هذا ما يتعلق بحال الذكر الذي قدَّمه الله تعالى، وأما التفكر فهو أعظم العبادات وأفضل القربات، هو عبادة العارفين ومنتهى المقربين. وفي الخبر: «تفكرُ سَاعةٍ أفضَل مِنْ عَبَادَةِ سبعينَ سَنة». وقال الجنيد رضي الله عنه: أشرف المجالس وأعلاها: الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد، والتنسم بنسيم المعرفة، والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد، والنظر لحسن الظن بالله تعالى. ثم قال: يا لها من مجالس، ما أجلها، ومن شرابٍ ما ألذه، طوبى لمن رزقه. وقال القشيري رضي الله عنه التفكر نعت كل طالب، وثمرته: الوصول بشرط العلم، فإذا سلم الفكر عن الشوائب ورد صاحبهُ على مناهل التحقيق. ه. وسئلت زوجة أبي ذر عن عبادة زوجها، فقالت: كان نهاره أجمع في ناحية يتفكر. وكذلك زوجة أبي بكر قالت: كان ليله أجمع في ناحية يتفكر. وكذا زوجة أبي الدرداء، وكان سيدنا عيسى عليه السلام يقول: طوبى لمن كان قيله ذكراً وصمته تفكراً، ونظره عبرة. وقال الحسن رضي الله عنه: من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو، ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو. ه. وقال في الحكم: «ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة». وقال أيضاً: «الفكرة سراج القلب، فإذا ذهبت فلا إضاءة له». وقال أيضاً: «الفكرة فكرتان؛ فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان، فالأولى لأرباب الاعتبار، والثانية لأرباب الشهود والاستبصار». وفكرة الشهود والعيان هي عبادة العارفين، ولا يُحصر ثوابها في ستين ولا في سبعين، بل وقت منها يعدل ألف سنة، كما قال الشاعر: كَلُّ وَقْتٍ مِنْ حَبِيبِي *** قَدْرُهُ كَأَلفِ حَجّه فأوقات هؤلاء كلها ليلة القدر، ومن لم يبلغ هذا المقام فليبك على نفسه على الدوام، ومن ظفر بها ونالها حق له الهناء، وفي أمثاله قال القائل: هُم الرِّجَالُ وغَبْنٌ أنْ يُقَالَ لِمَنْ *** لَمْ يَتَّصِفُ بمَعَاني وَصْفِهِمْ رَجُلُ حققنا الله بمقامهم، وسقانا من منالهم، آمين. وقوله: {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} بل هو ثابت بإثباتك، مَمْحُوٍّ بأحدية ذاتك، فالباطل محال، وكل ما سواه باطل، كما قرره الرسول- عليه الصلاة والسلام. وقوله: {ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا} أي: كنا في الرعيل الأول من أهل الإيمان، فجعل لنا سبيلاً إلى مقام الإحسان، {ربنا وآتنا ما وعدتنا} وهو الوصول إلى العيان. وبالله التوفيق.
{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)} قلت: {استجاب}: أخص من أجاب، لأن استجاب مُستلزم لفعل ما طلب منه، وأجاب يصدق بالوعد، ويتعدى بنفسه وباللام، و{بعضكم من بعض}: جملة معترضة. قاله البيضاوي فانظره. يقول الحقّ جلّ جلاله: {فاستجاب لهم ربهم} فيما طلبوه؛ لأنه لا يرد السؤال، ولا تخيب لديه الآمال، ولذلك قال: {أني} أي: بسبب {أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى}؛ لأنكم {بعضكم من بعض}؛ لأن الذكر من الأنثى، والأنثى من الذكر، ولأنهما من أصل واحد، ولفط الاتصال والاتحاد والاتفاق في الدين. رُوِيَ «أَنَّ أمَّ سَلَمَة قالتْ: يا رَسُولَ اللّهِ، أني أَسْمَعُ الله يَذكُر الرجَالَ في الهِجْرَةِ ولم يَذكُر النساء، فنزلت: {مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} [آل عِمرَان: 195]» الخ. ثم فصل أعمال العمال، وما أعد لهم من الثواب فقال: {فالذين هاجروا} دار الشرك، وفارقوا الأوطان والأصحاب والعشائر، {وأخرجوا من ديارهم وأُوذوا في سبيلي} بسبب إيمانهم بالله، {وقاتلوا} الكفار، و{قُتلوا} أي: ماتوا في الجهاد. وقرئ بالعكس؛ لأن الواو لا ترتب، أو قتل بعضهم، وقاتل الباقون ولم يضعفوا، {لأكفرنّ عنهم سيئاتهم} أي: لأمحونها، {ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله} أي: أثيبهم من عند الله تفضلاً وإحساناً، {والله عنده حسن الثواب} لا يعجزه شيء. الإشارة: لما توجهوا إليه بهممهم العلية، وعزائمهم القوية، فقرعوا بابه بدوام ذكره، والتفكر في عظمة ذاته، وجميل إحسانه وبره، وتضرعوا إليه بلسان الذل والانكسار، وحال الخضوع والاضطرار، أجابهم ففتح في وجوههم الباب، وأدخلهم في حضرته مع الأحباب، لأنه يجيب السؤال، ولا يخيب الآمال، بعد أن هاجروا الأوطان، وفارقوا العشائر والإخوان، إلا من يزيد بهم إلى الرحمن، فقاتلوا نفوسهم حتى ماتت فحييت بالوصال، إلى جوار الكبير المتعال، قال الشاعر: إنْ تُردْ وَصْلنَا فَمَوتكَ شَرْطٌ *** لا يَنَالُ الوِصَالَ مَنْ فِيهِ فَضْلَه فمحا عن عين بصائرهم سيئات الأغيار، وطهَّر قلوبهم من درن الأكدار، حتى دخلوا جنة المعارف، التي لا يحيط بوصفها وصف واصف، تجري من تحتها أنهار العلوم، وتنفتح منها مخازن الفهوم، ثواباً من عند الحيّ القيوم والله تعالى أعلم.
{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)} قلت: النُزل- ويسكن-: ما يقدم للنازل من طعام وشراب وصلة، وانتصابه: على الحال من {جنات}، والعامل فيه: الظرف، أو على المصدر المؤكد، أي: أُنزلوها نزلاً. يقول الحقّ جلّ جلاله: {لا يغرنك} أيها السامع أو أيها الرسول، والمراد: تثبيته على ما كان عليه، كقوله: {فلا تطع المكذبين}، أي: دم على ما أنت عليه من عدم اغترارك بظاهر ما ترى عليه الكفار من البسط في الدنيا، والتقلب فيها بالتجارات والزراعات، وما هم عليه من الخصب ولين عيش، فإن ذلك {متاع قليل} بلغة فانية، ومتعة زائلة، وظلال آفلة، وسحابة حائلة. قال صلى الله عليه وسلم: «ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلاَّ مِثْلُ ما يَجْعَلُ أَحَدُكُم إصْبَعَهِ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُر بِمَ يَرْجِعَ» فلا بد أن يرحلوا عنها قهراً، {ثم مأواهم} أي: مصيرهم {جهنم وبئس المهاد} ما مهدوا لأنفسهم. والمعتبر عند الأكياس هو ما أعد الله للمتقين من الناس، قال تعالى: {لكن الذين اتقوا ربهم} وخافوا عقابه، {لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها}، هيأ ذلك لهم وأعده {نزلاً من عند الله} هذا النزول الذي يقدم للضيف، وأما ما أعد لهم بعد النزول فلا يُعتبر عن لسان، ولذلك قال: {وما عند الله} من النعيم الذي لا يفنى، جسماني وروحاني، {خير للأبرار} مما ينقلب إليه الفجار. قيل: حقيقة البر: هو الذي لا يؤذي الذر. الإشارة: لا يغرنك أيها الفقير ما ترى عليه أهل الدنيا من اتخاذ المنازل المشيدة، والفرش الممهدة، فإن الدنيا متاعها قليل، وعزيزها قليل، وغنيها فقير، وكبيرها حقير، واعتبر بحال نبيك- عليه الصلاة والسلام. قال أنس رضي الله عنه: دَخلتُ علَى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهُو على سَرِير مرفل بالشريط- أي: مضفور به- وتحت رَأسِهِ وسَادَةٌ من أَدَم، حَشْوُهَا لِيفٌ، فدل عليه عمر، وانحرف النبيّ صلى الله عليه وسلم انحرافة، فرأى عمر الشريط في جَنْبِهِ، فَبكَى، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما يُبْكِيكَ يا عمر» ؟ فقال: مَالِيَ لا أبْكِي وكِسْرى وقَيْصَرُ يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا، وأنت على الحال الذي أرى، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يا عمر أمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لهُم الدُّنيا وَلَنا الآخرَةُ» رواه البخاري. وانظر ما أعدّ الله للمتقين الأبرار، الذين صبروا قدر ساعة من نهار، فأفضوا إلى جوار الكريم الغفار في دار القرآن، {وما عند الله خير للأبرار}، ولا سيما العارفين الكبار. قال الورتجبي: بيِّن الحق- تعالى- رفعة منزل المتقين في الجنان، ثم أبْهم لطائف العناية بقوله: {وما عند الله خير للأبرار} أي: ما عنده من نعيم المشاهدة، ولطائف القربة، وحلاوة الوصلة، خير مما هم فيه من نعيم الجنة، وأيضاً: صرح في هذه الآية ببيان مراتب الولاية، لأنه ذكر المتقين، والتقوى: تقديس الباطن عن لوث الطبيعة، وتنزيه الأخلاق عن دنس المخالفة، وذلك درجة الأولى من الولاية، والأبرار أهل الاستقامة في المعرفة، وبين أن أهل التقوى في الجنة، والأبرار في الحضرة. ه.
{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)} يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإن من أهل الكتاب}؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه ممن أسلم من اليهود، {لمن يؤمن بالله} إيماناً حقيقياً، {وما أُنزل إليكم} من القرآن، {وما أُنزل إليهم} من التوراة، حال كونهم {خاشعين لله} خاضعين مخبتين وافين بالعهد، {لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً}، كما فعل المحرفون من أحبار اليهود، {أولئك لهم أجرهم عند ربهم} أي: ما وعدوا به من تضعيف أجرهم مرتين، {إن الله سريع الحساب}؛ فيُسرع إلى توفية أجورهم وإكرام منقلبهم؛ لأن الله عالم بالأعمال وما تستوجبه من النوال، فلا يحتاج إلى تأمل ولا احتياط؛ لأنه غني عن التأمل والاحتياط. وقيل: نزلت في النصارى: أربعين من نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، قدموا على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأسلموا. وقيل: نزلت في النجاشي، لما نَعَاه جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج- عليه الصلاة والسلام-، وصلّى عليه، فقال المنافقون: انظروا إلى هذا، يصلّي على عِلْجٍ نصراني، فنزلت الآية. والله تعالى أعلم. الإشارة: قد رأينا بعض الفقهاء حصل لهم الإيمان بخصوص أهل زمانهم، بتحققوا بولايتهم، ونالوا شيئاً من محبتهم، لكن لم تساعفهم الأقدار في صحبتهم، فظهرت عليهم آثار أنوارهم، واقتبسوا شيئاً من أسرارهم، فتنوّرت سريرتهم، وكملت شريعتهم، وأظهر عليهم آثار الخشوع، وأخذوا حظّاً من التواضع والخضوع، متخلقين بالقناعة والورع، قد ذهب عن قلبهم ما ابتلى به غيرهم من الجزع والهلع، فلا جرم أن هؤلاء لهم أجرهم مرتين: أجر ما تحملوا من الشريعة لنفع العوام، وأجبر ما اكتسبوا من محبة القوم؛ «المرءُ مَع مَنْ أَحب» وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} قلت: المرابطة: أن يربط هؤلاء خيولهم، وهؤلاء خيولهم، إرصاداً لمن حاربهم، ثم أُطلق على كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه، وإن لم يكن له مركب، إذا كان بنية الدفع عن المسلمين كان بأهله أو وحده. المدار على خلوص النية، خلاف ما قاله ابن عطية، وسيأتي صوابه في تفسير المعنى، إن شاء الله. يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا} على مشاق الطاعات، وما يصيبكم من الشدائد والأزْمَات، وعلى مجانبة المعاصي والمخالفات، وعلى شكر ما أوليتكم من مواهب العطيات {وصابروا} أي: غالبوا الأعداء في مواطن الصبر، والثبوت في مداحض الحرب، {ورابطوا} أبدانكم وخيولكم في الثغور لتحفظوا المسلمين من العدو الكفور، كي تفوزوا بعظائم الأجور؛ قال صلى الله عليه وسلم: «من رَابَط يَوْماً ولَيلَة في سبيل اللّهِ كان كعدل صِيامِ شَهْر وصِيَامه، لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة، ومن توفي في سبيل الله- أي: مرابطاً في سبيل الله- أجْرَى الله عليه أجره حتى يقضي بين أهلِ الجنَةِ وأهل النَّارِ» ومما يلحق بالرباط: «أنتظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ»، كما في الحديث: {واتقوا الله} فيما يأمركم به وينهاكم عنه، {لعلكم تفلحون} فلاحاً لا خسران بعده أبداً. الإشارة: {يا أيها الذين آمنوا} إيمان أهل الخصوص، {اصبروا} على حفظ مراسم الشريعة، {وصابروا} على تحصيل أنوار الطريقة، {ورابطوا} قلبوكم على شهود أسرار الحقيقة، أو: اصبروا على أداء العبادة، وصابروا على تحقيق العبودية، ورابطوا في تحصيل العبودة- أي: الحرية- أو: اصبروا على تحقيق مقام الإسلام، وصابروا على دوام الإيمان، ورابطوا على العكوف في مقام الإحسان، أو: اصبروا على تخليص الطاعات، وصابروا على رفض الحظوظ والشهوات، ورابطوا أسراركم على أنوار المشاهدات، {واتقوا الله} فلا تشهدوا معه سواه، {لعلكم تفلحون}، بتحقيق معرفة الله. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} قلت: من قرأ: {والأرحامَ} بالنصب، فعطف على لفظ الجلالة، أي: اتقوا الأرحام أن تقطعوها، وقرأ حمزه بالخفض على الضمير من {به}؛ كقول الشاعر: فَالْيَوْمَ قَدْ بتّ تَهْجُونَا وَتَشْتُمُنَا *** فَاذْهَبَ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ وجمهور البصريين يمنعون العطف على الضمير إلا بإعادة الجار، فيقولون: مررت به وبزيد. وقال ابن مالك: ولَيْس عِنْدي لاَزمَا إذْ قَدْ أَتَى *** في النَّظْم والنَّثْر الصَّحِيح مُثْبَتَا والنثر الصحيح هو ما قرأ به حمزة، وهذا هو التوجيه الصحيح، وأما من جعل الواو للقسم فبعيد. يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الناس} أي: جميع الخلق، اتقوا ربكم فيما كلفكم به، ثم بيَّن موجب التقوى فقال: {الذي خلقكم من نفس واحدة} يعني آدم، {وخلق منها زوجها} يعني حواء، من ضلع من أضلاعه، {وبث} أي: نشر {منهما رجالاً كثيرًا ونساء} أي: نشر من تلك النفس الواحدة بنين وبنات. قال البيضاوي: واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء، إذْ الحكمة تقتضي أن يكنَّ أكثر، وذكر: {كثيرًا} حملاً على الجمع، وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة التي من حقها أن تُخشى والنعمة الباهرة التي توجب طاعة مولاها. ه. {واتقوا الله الذي تساءَلون به} أي: يسأل بعضكم بعضَا فيقول: أسألك بالله العظيم، {والأرحام} أي: واتقوا الأرحام فلا تقطعوها، فمن قطعها قعطه الله، ومن وصلها وصله الله، كما في الحديث. أو تساءلون به وبالأرحام، فيقول بعضكم لبعض: أسألك بالرحم التي بيني وبينك، أو بالقرابة التي بيني وبينك. ثم هددهم على ترك ما أُمروا به فقال: {إن الله كان عليكم رقيباً} حافظًا مطلعًا شهيدًا عليكم في كل حال. الإشارة: درجهم في آخر السورة في مدارج السلوك حتى زجَّهم في حضرة ملك الملوك، وأمرهم أن يتقوا ما يُخرجهم عن مشاهدة ظلمة أنوار الربوبية، ثم دلاهم في أول السورة إلى التنزل لآداب العبودية بشهود آثار القدرة الإلهية، في النشأة الأولية، ليعلَّمهم الجمع بين آداب المراقبة ودوام المشاهدة، أو بين الفناء والبقاء. وقد تكلم ابن جزي هنا على أحكام المراقبة، فقال: إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها، استفاد مقام المراقبة، وهو مقام شريف أصله علم وحال، ثم يثُمر حالين. أما العلم: فهو معرفة العبد بأن الله مطلع عليه، ناظر إليه في جميع أعماله، ويسمع جميع أقواله، ويعلم كل ما يخطر على باله. وأما الحال: فهو ملازمة هذا العلم بالقلب، بحيث يغلب عليه ولا يغفل عنه. ولا يكفي العلم دون هذه الحال، فإذا حصل العلم والحال كانت ثمرتهما عند أصحاب اليمين: الحياء من الله، وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجد في الطاعات، وكانت ثمرتهما عند المقربين: المشاهدة، التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال. وإلى هاتين الثمرتين أشار الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله «أن تعبدَ اللهَ كأنكَ تَراه فإنْ لم تكنْ تَراه فإنه يَراك»، فقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه» إشاره إلى الثمرة الثانية، وهي الموجبة للتعظيم، كمن يشاهد ملكًا عظيمًا فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة، وقوله: «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» إشارة إلى الثمرة الأولى، ومعناه: إن لم تكن من أهل المشاهدة التي هي مقام المقربين فاعلم أنه يراك، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين، فلما فسر الإحسان أول مرة بالمقام الأعلى، ورأى أن كثيرًا من الناس قد يعجزون عنه، تنزل منه إلى المقام الآخر. واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدم قبلها المشارطة والمرابطة، ويتأخر عنها المحاسبة والمعاتبة، فأما المشارطة فهي اشتراط العبد على نفسه التزام الطاعة، وترك المعاصي، وأما المرابطة فهي معاهدة العبد لربه على ذلك، ثم بعد المشارطة والمرابطة في أول الأمر تكون المراقبة... الخ. وبعد ذلك يحاسب العبدُ نفسَه على ما اشترطه وعاهد عليه، فإن وجد نفسه قد وفَّى بما عاهد عليه الله يحمد الله، وإن وجد نفسه قد حلَ عَقد المشارطة ونقض عهد المراقبة، عاقب النفس عقابًا شديدًا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك، ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة، وحافظ على المراقبة، ثم اختبر بالمحاسبة، وهكذا يكون إلى أن يلقى الله تعالى. انتهى كلامه، وهو مقتبس من الإحياء. والله تعالى أعلم.
{وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)} قلت: اليتيم: مَنْ فقدَ أباه، ولا يقال فيه اليتيم عُرفا إلا قبل البلوغ، وهو هنا مجاز، أي: من كان يتيمًا، والحوبُ: الإثم، ويقال فيه: حوبا، بالضم والفتح، مع الواو والألف، مصدر حاب حوبًا وحوَبا وحابا. يقول الحقْ جلّ جلاله: {وآتوا} أي أعطوا {اليتامى أموالهم} إذا بلغوا، وأُنِس منهم الرشد، وسمَّاهم يتامى بعد البلوغ اتساعًا؛ لقرب عهدهم بالصغر. حثًا على أن يُدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم، قبل أن يزول عنهم هذا الاسم إذا أنِسَ فيهم الرشد، ويدل على هذا ما قيل في سبب نزول الآية، وهو أن رجلآ من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له، فلما بلغ طلب مال أبيه، فمنعه، فنزلت الآية، فلما سمعها العم قال: أطعنا الله ورسوله، ونعوذ بالله من الحُوب الكبير. وقيل: إن العرب كانت لا تورِّث الصغار مع الكبار، فأُمِرُوا أن يورثوهم، وعلى هذا يكون اليتيم على حقيقته، فعلى الأول: الخطاب للأوصياء، وعلى الثاني: للعرب التي كانت لا تورث الصغار. ثم قال: {ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} أي: لا تتبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم، أو: لا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتُعطوا الخبيث مكانها من أموالكم. كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالمهزولة من ماله، والدرهم الطيب بالزائف. {ولا تأكلوا أموالهم} مضمومًا {إلى أموالكم} فتنفقونها معًا، مع أن اليتيم لا يأكل كالكبير، إلا إذا كان المنفَق قدَّر أكله، أو لمصلحة. {إنه} أي: الأكل، {كان حُوبًا كبيرًا} أي: إثمًا عظيمًا. الإشارة: أمر الحقّ جلّ جلاله أغنياء القلوب، وهم أكابر الأولياء الراسخون في علم الغيوب، أن يَمنحوا من تعلق بهم من الفقراء والضعفاء، من الغني بالله الذي منحهم الله، حتى لا يلتفتوا إلى سواه، وأن يَقبلوا كل من أتى إليهم من العباد، سواء كان من أهل المحبة والوداد، أو من أهل المخالفة والعناد، ولا يتبدلوا الخبيث بالطيب، بحيث يَقبلون من وجدوه طيب الأخلاق، ويردون من وجدوه خبيث الأخلاق، فإن هذا ليس من شأن أهل التربية النبوية، بل من شأنهم أن يقبلوا الناس على السوية، ويقلبوا فيهم الأعيان، فيقبلون العاصي طائعًا، والكافر مؤمنًا، والغافل ذاكرًا، والشحيح سخيًّا، والخبيث طيبًا، والمسيء محسنًا، والجاهل عارفًا، وهكذا؛ لما عندهم من الإكسير، وهي الخمرة الأزلية، أي: التي من شأنها أن تقلب الأعيان، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه في وصفها: تُهذبُ أخلاقَ النَّدامى فيَهْتَدي *** بها لطريقِ العزمِ مَن لا له عَزْم ويكرُمُ مَنْ لم يَعْرِف الجودَ كَفُّه *** ويحلُمُ عند الغيْظِ مَنْ لا لهُ حِلم وقوله: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} يعني: حتى تتحققوا بوصول الغني إلى قلوبهم، فإن تحققتم فخذوا ما بذلوا لكم من أموالهم. والله تعالى أعلم.
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)} قلت: {ما} من شأنها أن تقع على ما لا يعقل، وهنا وقعت على النساء لقلة عقلهن حتى التحَقْنَ بمن لا يعقل و{مثنى وثلاث ورباع} أحوال من {ما} ممنوعة من الصرف للوصف والعدل، أي: اثنتين اثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعًا أربعا. يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإن خفتم} يا معشر الأولياء إلاَّ تعدلوا {في اليتامى} التي تحت حجركم إذا تزوجتم بهن طلبًا لمالهن، مع قلة جمالهن، فتهجروهن أو تسيئوا عشرتهن، {فانكحوا ما طاب لكم} من غيرهن، أو: وإن خفتم ألا تُقسطوا في صداقهن إذا أعجبنكم لِمَالِهنّ الذي بيدكم وجمالهن، فانكحوا غيرهن، ولا تنكحوهن إلا إذا أعطيتموهن صداق أمثالهن. قالت عائشة رضي الله عنها: (هي اليتيمة تكون في حِجر وليها، فيرغب في مالها وجمالها، ويرد أن ينكحها بأدنى صداقها، فنُهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأُمِروا أن ينكحوا ما سواهن من النساء). رواه البخاري. وقال ابن عباس رضي الله عنه: (إن الرجل منهم كان يتزوج العشرة وأكثر يعني قبل التحريم فإذا ضاق ماله أخذ من مال يتيمه)، فقال لهم: إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى أي: في أموالهن فانكحوا ما طاب لكم من غيرهن {مثنى وثلاث ورباع} أي: اثنتين اثنتين لكل واحدٍ، أو ثلاثاً ثلاثاً، أو أربعًا أربعًا، ولا تزيدوا، فمنع ما كان في الجاهلية من الزيادة على الأربع، وهو مُجمع عليه بنص الآية، ولا عبرة بمن جوَّز تسعًا لظاهر الآية؛ لأن المراد التخيير بين تلك الأعداد، لا الجمع، ولو أراد الجمع لقال تسعًا، ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه وأقل بيانًا. {فإن خفتم ألا تعدلوا} بين الاثنتين أو الثلاث أو الأربع، فاقتصروا على واحدة، أو على ما ملكت أيمانكم من قليل أو كثير؛ إذ لا يجب العدل بينهن، {ذلك} الاقتصار على الواحدة {أدنى} أي: أقرب {ألا تعولوا} أي: تجوروا أو تميلوا، أو ألا تجاوزوا ما فرض عليكم من العدل، أو أدنى ألا يكثر عيالكم فتفتقروا، وهي لغة حِمْيَر. والله تعالى أعلم. الإشارة: اعلم أن الحق تعالى جعل أولياءه أصنافاً عديدة؛ فمنهم من غلب عليه فيض العلوم، ومنهم من غلب عليه هجوم الأحوال، ومنهم من غلب عليه تحقيق المقامات، قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: كان الجنيد رضي الله عنه قطبًا في العلوم، وكان أبو يزيد رضي الله عنه قطبًا في الأحوال، وكان سهل بن عبد الله قطبًا في المقامات. ه. أي: كل واحد غلب واحد من ذلك، مع مشاركته للآخر في الباقي، فينبغي لكل واحد أن يخوض في فنِّه الذي خصَّه الله به ولا يتصدى لغيره. فقال لهم الحق جل جلاله من طريق الإشاره: فإن خفتم يا مَنْ غلبت عليهم الأحوال أو المقامات، أَلاَّ تُقسطوا في يتامى العلوم التي اختص بها غيركم، فانكحوا ما طاب لكم من ثيبات الأحوال وأبكار الحقائق، كثيرة أو قليلة، فإن خفتم أن تغلبكم الأحوال، أو التنزل في المقامات، ولا تعدلوا فيها، فالزموا حالة واحدة ومقامًا واحدًا، وهو المقام الذي ملكه وتحقق به، فإن أقرب ألا ينحرف عن الاعتدال؛ لأن كثرة الأحوال تضر بالمريد كما هو مقرر في فنه. والله تعالى أعلم.
{وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)} قلت: {نِحلة}: مصدر من {آتوهن}، لأنها في معنى الإيتاء، يقال: نحله كذا نحلة ونحلا؛ إذا أعطاه إياه عن طيب نفس بلا توقع عوض ولا حكم حاكم، والضمير في {منه} يعود على الصداق أو على «الإيتاء»، و{نفسًا} تمييز، و{هنيئاً مريئًا}: صفتان لمصدر محذوف، أي: أكلاً هنيئًا، وهو من هَنُؤ الطعام ومَرُؤ، إذا كان سائغًا لا تنغيص فيه، وقيل الهنيء: ما يلذه الإنسان، والمريء: ما تُحمد عاقبته. يقول الحقّ جلّ جلاله: للأزواج: {وآتوا النساء} التي تزوجتموهن {صدقَاتهن نحلة} أي: عطية مُبتلة، لا مطل فيها ولا ظلم، {فإن طِبن لكم عن شيءٍ} من الصداق: وأعطينه لكم عن طيب أنفسهن {فكلوه هنيئًا} لاتبعة عليكم فيه، {مريئًا}: سائغًا حلالاً لا شبهة فيه، رُوي أن ناسًا كانوا يتحرّجون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئًا، فنزلت. وقيل: الخطاب للأولياء، لأن بعضهم كان يأكل صداق محجورته، فأمروا أن يعطوهن صداقهن، إلا إن أعطينَهم شيئًا عن طيب أنفسهن، والله تعالى أعلم. الإشارة: وآتوا النفوس حقوقها من الراحة وقوت البشرية، نحلة، ولا تكلفوها فوق طاقتها، فإن طبن لكم عن شيء من الأعمال أو الأحوال، بانشراح صدر ونشاط، فكلوه هنيئًا مريئاً، فإنَّ العبادة مع النشاط والفرح بالله أعظم وأقرب للدوام، وهذا في حق النفوس المطمئنة، وأما النفوس الأمارة فلا يناسبها إلا قهرية المجاهدة مع السياسة؛ لئلا تمل، أو تقول: من أقامه الحق تعالى في حال من الأحوال أو مقام من المقامات فليلزمه، وليقم حيث أقامه الحق، ويعطيه حقه، فإن طاب وقته لحال من الأحوال فليأكله هنيئًا مريئًا. فالفقير ابن وقته، ينظر ما يبرز له فيه من رزقه، فكل ما وجد فيه قلبه فهو رزقه، فليبادر إلى أكله لئلا يفوته رزقه منه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)} قلت: {قيمًا}: مصدر قام قيامًا وقيما، وأصله: قوامًا، قلبت الواو ياء. يقول الحقّ جلّ جلاله: للأوصياء: {ولا تؤتوا السفهاء} التي تحت حضانتكم {أموالكم} أي: أموالهم التي في أيديكم، وإنما أضاف أموال اليتامى لهم حثًا على حفظها وتنميتها كأنها مال من أموالهم، أي: ولا تمكنوا السفهاء من أموالهم التي جعلها الله في أيديكم {قيمًا} لمعاشهم، تقومون بها عليهم، ولكن احفظوها، واتجروا فيها، واجعلوا رزقهم وكسوتهم فيها باعتبار العادة، فإن طلبوها منكم فعدوهم وعدًا جميلاً، {وقولوا لهم قولاً معروفًا} أي: كلامًا لينًا بأن يقول له: حتى تكبر وترشد لتصلح للتصرف فيها. وشبه ذلك. وإنما قال: {وارزقوهم فيها} دون «منها»؛ لأن «فيها» يقتضي بقاءها بالتنمية والتجارة حتى تكون محلاً للرزق والكسوة دون «منها»، وقيل: الخطاب للأزواج، نهاهم أن يعمدوا إلى ما خولهم الله من المال فيعطوه إلى نسائهم وأولادهم، ثم ينظرون إلى أيديهم. وإنما سمَّاهن سفهاء استخفافًا بعقلهن، كما عبر عنهن ب «ما» التي لغير العاقل. وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إنما خُلقتْ النارُ للسفهاء قالها ثلاثًا ألا وإن السفهاءَ النساء إلا امرأة أطاعت قيِّمَها». وقالت أمرأة: يا رسول الله: سميتنا السفهاء! فقال: «الله تعالى سماكن في كتابه» يشير إلى هذه الآية. وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: (ثلاثة يَدْعُون الله فلا يُستجاب لهم: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل كان له على رجل دين فلم يُشْهِد عليه، ورجل أعطى سفيهًا ماله، وقد قال الله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم}). قلت: إنما مُنعوا إجابة الدعاء لتفريطهم في مراسم الشريعة. والله تعالى أعلم. الإشارة: لا ينبغي للشيخ أن يُطلع المريد على أسرار التوحيد، وهي أسرار المعاني التي جعلها الله تعالى قائمة بالأشياء، حتى يكمل عقله، ويتحقق أدبه، ويظهر صدقه، فإذا استعجلها قبل وقتها فليعده وعدًا قريبًا، وليقل له قولاً معروفًا، فكم من مريد استعجل الفتح قبل إبانه فعوقب بحرمانه، وكم من مريد اطلع على أسرار الحقيقة قبل كمال خدمته فطُرد أو قتل، ووقتها هو حين تبرز معه فتأخذه الحيرة، اللهم إلا أن يراه الشيخ أهلاً لحملها؛ لرجحان عقله وكمال صدقه، فيمكنه منها قبل أن تبرز معه، ثم يربيه فيها، وهذا الذي شهدناه من أشياخنا لشدة كرمهم رضي الله عنهم وأرضاهم ورزقنا حسن الأدب معهم، فأطلق الحق تعالى الأموال بطريق الإشارة على أسرار المعاني، وأمر الشيوخ أن يرزقوهم منها شيئًا فشيئًا بالتدريب والتدريج، وأن يكسوهم بالشرائع، ويحتمل أن تبقى الأموال على ظاهرها، ويكون أمر الشيخ أن يمنعوا المريدين من أخذ الأموال قبل التمكين.
{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)} قلت: الابتلاء: الاختبار، و«آنس»: أبصر. والرشد هو كمال العقل بحيث يعرف مصالح نفسه وتدبير ماله من غير تبذير ولا إفساد. و{إسرافًا وبدارًا}: حالان من «الواو»، أو مفعولان لأجله، و{أن يكبروا} مفعول ببدار. يقول الحقّ جلّ جلاله: للأوصياء: واختبروا {اليتامى} قبل البلوغ بتتبع أحوالهم في تصرفاتهم، بأن يُدفع لهم الدرهم والدرهمان، فإن ظهر عليه حسن التصرف زادهم قليلاً قليلا، وإن ظهر عليهم التبذير كفَّ عنهم المال، {حتى إذا بلغوا النكاح}، وهو البلوغ بعلامته، {فإن آنستم} أي: أبصرتم {منهم رشدًا}، وهو المعرفة بمصالحه وتدبير ماله، وإن لم يكن من أهل الدين واشترطه قوم، {فادفعوا إليهم} حينئِذ {أموالهم} من غير تأخير. {ولا تأكلوها إسرافًا وبدارًا أن يكبروا} أي: لا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم فتزول من يدكم، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم {ومَن كان غنيًّا فليستعفف} عن أكلها في أجرة قيامه بها، {ومَن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف} بقدر حاجته وأجر سعيه، وعنه صلى الله عليه وسلم: أنَّ رجُلاً قال لهُ: إنَّ في حجْرِي يتَيمًا أفآكُلُ مِنْ مَالِهِ؟ قال: «بالمعْرُوفِ، غَيْرَ مُتأثِّلٍ» مَالاً ولا وَاقٍ مَالَكَ بمَالِه «. {فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا} في قبضها منكم {عليهم}، فإنه أنفى للتهمة وأبعدُ من الخصومة، وهو ندب، وقيل: فرض، فلا يصدق في الدفع إلا ببينة، {وكفى بالله حسيبًا} أي: محاسبًا، فلا تخالفوا ما أمرتم به، ولا تجاوزوا ما حدّ لكم. وإنما قال: {حسيبًا} ولم يقل:» شهيدًا «، مع مناسبته، تهديدًا للأوصياء لئلا يكتموا شيئًا من مال اليتامى، فإذا علموا أن الله يحاسبهم على النقير والقطمير، ويعاقبهم عليه، انزجروا عن الكتمان. والله تعالى أعلم. الإشارة: ينبغي للشيخ أن يختبر المريد في معرفته وتحقيق بغيته، فإذا بلغ مبلغ الرجال وتحققت فيه أوصاف الكمال، بحيث تحقق فناؤه، وكمل بقاؤه، وتمت معرفته، فيكون تصرفه كله بالله ومن الله وإلى الله، يَفهم عن الله في كل شيء، ويأخذ النصيب من كل شيء، ولا يأخذ من نصيبه شيئًا، قد تحلَّى بحلية الورع، وزال عنه الجزع والطمع، وزال عن قلبه خوف الخلق وهَمُّ الرزق واكتفى بنظر المَلِك الحق، يأخذ الحقيقة من معدنها، والشريعة من موضعها، فإذا تحققت فيه هذه الأمور، وأنس رشده، فليُطلقُ له التصرف في نفسه، وليأمره بتربية غيره، إن رآه أهلاً لذلك، ولا ينبغي أن يحجر عليه بعد ظهور رشده، ولا يسرف عليه في الخدمة قبل رشده، مخافة أن يزول من يده. فإن كان غنيًا عن خدمته فليستعفف عنه، وليجعل تربيته لله اقتداء بأنبياء الله. قال تعالى: {قُل لآَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعَام: 90] {وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشُّعَرَاء: 109]، وإن كان محتاجًا إليها فليستخدمه بالمعروف، ولا يكلفه ما يشق عليه، فإذا دفع إليه السر، وتمكن منه، وأمره بالتربية أو التذكير فليشهد له بذلك، ويوصي بخلافته عنه، كي تطمِئن القلوب بالأخذ عنه، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً} [النساء: 45].
{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)} قلت: جملة {مما قل..} الخ، بدل {مما ترك}، و{نصيبًا}: مصدر مؤكد كقوله: {فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ} [النساء: 11] أي: نصب لهم نصيبًا مقطوعًا، أو حال، أو على الاختصاص، أعني: نصيبًا مقطوعًا. يقول الحقّ جلّ جلاله: وإذا مات ميت وترك مالاً فللرجال نصيب مما ترك آباءهم وأقاربهم، وللنساء نصيب مما ترك والدهن وأقاربهن كالإخوة والأخوات، مما ترك ذلك الميت قل أو كثر، {نصيبًا مفروضًا} واجبًا محتمًا. رُوِيَ أنَّ أَوْسَ بنَ ثَابتِ الأنْصَارِيَّ تُوفِيَّ، وتَركَ امرأة يقال لها: (أم كَحَّة) وثلاثّ بناتٍ، فأخذ ابْنَا عَمّ الميتِ المَالَ، ولم يُعْطيا المرأَة ولا بَنَاتِه شيئًا، وكان أَهلُ الجَاهلِيَّة لا يُورِّثُون النِّسَاءَ ولا الصغيرَ ولو كان ذكرًا، ويقولون: إنما يَرث مَنْ يُحارب ويَذب عن الموروث، فجاءت أمُ كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد الفضيخ، فقالت: يا رسول الله؛ إن أوس بن ثابت مات، وترك بنات ثلاثًا، وأنا اِمْرأته، ولَيْس عِنْدِي مال أُنْفقُه عَليهنّ، وقد تَرَك أبُوهُن مالاً حسنًا، وهو عند سُويْدٍ وعَرْفَجَة، فَدَعاهُما النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسُولَ الله ولَدُها لا يَركُب فَرسًا، ولا يَحْمِل سِلاَحًا، لا ينُكأ عَدُوًّا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «انْصَرِفُوا حتى أرى ما يُحدِثُ الله تعالى»، فانْصرَفُوا. فنزلت الآية. فأثبت الله لهن في الآية حقًا، ولم يُبِّين كم هو فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سُويد وعَرفجَة: «لا تُفرقا مِنْ مَال أوْسٍ شَيئًا، فَإنّ الله تعالى جَعَل لِبنَاتِه نَصِيبًا، ولم يبَّين كم هو حتى أنظُرَ ما يُنزل الله تعالى»، فأنزل الله تعالى بعدُ: {يُوصِيكُمُ اللهُ ِفي أوْلادِكُمْ} [النساء: 11]... إلى قوله... {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13]. فأرسل إليهما: «أن ادفعا إلى أم كحة الثُّمْن، وإلى بناته الثُّلثين، ولكما باقي المال». الإشارة: كما جعل الله للنساء نصيبًا من الميراث الحسي جعل لهن نصيبًا من الميراث المعنوي، وهو السر، إن صحبتْ أهل السر، وكان لها أبو الروحانية، وهو الشيخ، فللرجال نصيب مما ترك لهم أشياخهم من سر الولاية، وللنساء كذلك على قدر ما سبق في القسمة الأزلية، قليلة كانت أو كثيرة، نصيبًا مفروضًا معينًا في علم الله وقدره، وقد سواهن الله تعالى مع الرجال في آية السير، فقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤمِنينَ وَالْمُؤمِنَاتِ} [الأحزَاب: 35] إلى آخر الآية، فمَنْ صار منهن مع الرجال أدرك ما أدركوا. وبالله التوفيق.
{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)} قلت: الضمير في {منه}: يعود على المقسوم المفهوم من القسمة. يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإذا حضر} معكم في قسمة التركة ذَوو القرابة مِمَّنْ لا يرث، كالأخوال والخالات والعمات، {واليتامى والمساكين فارزقوهم} أي: فأعطوهم شيئًا من المال المقسوم تطييبًا لقلوبهم. فإن كان المال لغيركم، أو كان الورثة غيرَ بالغين، فقولوا لهم {قولاً معروفًا}، بأن تُعلموهم أن المال لغيرنا، ولو كان لنا لأعطيانكم، والله يرزقنا وإياكم. واختلف في هذا الأمر، هل للندب وهو المشهور أو للوجوب ونسخ بآية المواريث؟ وقيل: لم يُنسخ، وهي مما تهاون الناس بها. والله تعالى أعلم. الإشارة: يقول الحق جل جلاله لخواص أحبابه: إذا دارت الكؤوس بخمرة الملك القدوس، وتعاطيتهم قسمتها بين أرواحكم حتى امتلأت جميعُ أشباحكم، وروت منها عُروقكم، وحضر معكم من ليس من أبناء جنسكم، ممن لا يُحل شرْب خمرتكم، فإن كان من أهل المحبة والوداد، أو من له بكم قرابة واستناد، فلا تحرموه من شراب خمرتكم، ولا من نفحات نسمتكم، فإنكم قوم لا يشقى جليسكم، فارزقوه من ثمار علومكم، واسقوه من شراب خمرتكم، وذكَّروه بالله، وقولوا له ما يدله على الله، ويوصله إلى حضرة الله، وهذا هو القول المعروف، الذي هو بالنصح موصوف. رُوِي أن أبا هريرة رضي الله عنه نادى في سوق المدينة: يا معشر التجار، اذهبوا إلى المسجد، فأنَّ تركة مُحمدٍ تقسم فيه، لتأخذوا حقكم منها مع الناس قبل أن تنفد، فذهب التُجَّارُ إلى المسجد النبوي، فوجدوه معمورًا بالناس، بعضهم يُصلي، وبعضهم يتلو، وبعضهم يذكر، وبعضهم يعلم العلم، فقالوا: يا أبا هريرة، ليس هنا ما ذكرت من قسم التركة! فقال لهم: (هذه تركة محمد صلى الله عليه وسلم، لا ما أنتم عليه من جمع الأموال) أو كما قال رضي الله عنه.
{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)} قلت: هنا شرطية، تخلص للاستقبال، وجوابها: {خافوا}، وحذف مفعول {يخشى} للعموم، فيصدق بخشية العذاب وخشية العتاب وخشية البعد عن الأحباب، على حساب حال المخاطبين بهذه الخشية. يقول الحقّ جلّ جلاله: للأوصياء الذين في ولايتهم أولاد الناس: {وليخش} الذين يتولون يتامى الناس، فليحفظوا مالهم، وليحسنوا تنميته لهم ولا يضيعوه، وليخافوا عليهم الضيعة، كما يخافون على أولادهم، فإنهم لو ماتوا وتركوا {ذرية ضعافًا خافوا عليهم}، فكما يخافون على أولادهم بعدهم كذلك يخافون على أولاد الناس، {فليتقوا الله} في شأنهم، وليحفظوا عليهم أموالهم، وليرفقوا بهم ويلاطفوهم في الكلام، كما يُحبون أن يلاطف بأولادهم، {وليقولوا} لهم {قولاً سديدًا} أي: عدلاً صوابًا بالشفقة وحسن الأدب. وقيل: الخطاب لمن حضر المريض عند الإيصاء فيقولون له: قدم لنفسك، أعتق، تصدق، أعط كذا، حتى يستغرق ماله، فنهاهم الحق تعالى عن ذلك، وقال لهم: كما تخافون الضيعة على أولادكم بعدكم خافوا على أولاد الناس، فليتقوا الله في أمر المريض بإعطاء ماله كله، {وليقولوا قولاً سديدًا}: عدلاً، وهو الثلث، وقيل: للمؤمنين كلهم عند موتهم، بأن ينظروا للورثة، فلا يسرفوا في الوصية بمجاوزة الثلث. والله تعالى أعلم. الإشارة: أمر الحق جل جلاله أهل التربية النبوية إذا خافوا على أولادهم الروحانيين أن ينقطعوا بعد موتهم، أن يمدوهم بالمدد الأبهر، ويدلوهم على الغني الأكبر، حتى يتركوهم أغنياء بالله، قد اكتفوا عن كل أحد سواه، مخافة أن يسقطوا بعد موتهم في يد من يلعب بهم، فليتقوا الله في شأنهم، وليدلوهم على ربهم، وهو القول السديد. وينسحب حكمها على أولاد البشرية، فمن خاف على أولاده بعد موته، فليتق الله وليكثر من طاعة الله، وليحسن إلى عباد الله، في أشباحهم وأرواحهم أما أشباحهم فيُطعمهم مما خوله الله، ففي بعض الأثر عنه عليه الصلاة والسلام: «ما أحْسَنَ عَبْدٌ الصَّدَقَةَ في مَاله إلا أحْسَنَ اللهُ الخِلافَةَ عَلَى تَرِكَته» وأما الإحسان إلى أرواحهم، فيدلهم على الله، ويرشدهم إلى طاعة الله، ويعلمهم أحكام دين الله. فمن فعل هذا تولى الله حفظ ذريته من بعده، فيعيشون في حفظ ورعاية وعز ونصر، كما هو مشاهد في أولاد الصالحين، قال تعالى: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الْصَّالِحِينَ} [الأعرَاف: 196]، وتذكر قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]. وقال القشيري في هذه الآية: إن الذي ينبغي للمسلم أن يدخر لعياله التقوى والصلاح، لا المال، لأنه لم يقل فليجمعوا لهم المال، وليكثروا لهم العقار والأسباب، وليخلفوا العبيد والأثاث، بل قال: {فليتقوا الله} فإنه يتولى الصالحين. ه المراد منه.
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} قلت: {ظلمًا}: تمييز، أو مفعول لأجله. يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا} من غير موجب شرعي، {إنما يأكلون في بطونهم نارًا}، أي: ما يجُر إلى النار ويؤول إليها. وعن أبي برزة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يبعثُ اللهُ أقوامًا من قبورهم تتأججُ أفواههم نارًا»، فقيل: مَنْ هم يا رسول الله؟ قال: «ألم تر أن الله يقول: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا}» أي: يحترقون في نار، وأي نار!! والصَّلْى: هو الشيّ، تقول: صليت الشيء: شويته، وأصليته وصليته، وذكر البطون مبالغة وتهجين لحالهم. الإشارة: حذَّر الحق جلّ جلاله أهل الدعوى، الذين نصبوا أنفسهم للشيخوخة، وادعوا مقام التربية، مع كونهم جهالاً بالله، محجوبين عن شهود أسرار التوحيد، أن يأخذوا أموال الضعفاء؛ الذين تعلقوا بهم؛ لأنهم إنما يدفعون لهم ذلك طمعًا في الوصول إلى الله. وهم ليسوا أهلاً لذلك، فإذا أكلوا ذلك فإنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا، وهو تكثيف الحجاب، وزيادة العنت والتعب، إن أقبل عليهم الناس فرحوا واستبشروا، وإن أدبروا عنهم حزنوا وغضبوا، فأيُّ عذاب أعظم مِنْ هذا!!. فتحصَّل من أول الآية إلى آخرها، أن الحق تعالى أمر أهل الغني الأكبر، وهم الذين أهلَّهم للتربية النبوية، بأن سلكوا الطريق وأشرقت عليهم شموس التحقيق على يد شيخ كامل، بالاستعفاف، ولا يأخذ إلاّ قدر الحاجة، من أموال مّنْ انتسب إليهم، وسد الباب لأهل الدعوى، لإنه مِنْ أكْلِ أموال الناس بالباطل، لأنه يعطى على وجه لم يوجد في المعطى إليه، إلا إذا كان وجه الصدقة المحضة، مع أنه قد يكون غير مستحق لها. والله تعالى أعلم.
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)} {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ...} يقول الحقّ جلّ جلاله: {يوصيكم الله} أي: يأمركم ويعهد إليكم، {في أولادكم}، أي: في بيان ميراثهم، ثم فصَّله فقال {للذكر مثل حظ الأنثيين}، أي يعُدُ كل ذكر بأنثيين، فإذا ترك ابنًا وبنتًا، كانت من ثلاثة للذكر سهمان وللبنت سهم، وإذا ترك ابنًا وبنتين فله قسمتان، ولكل واحدة قسمة، وهكذا، قال ابن جزي: هذه الآية نزلت بسبب سعد بن الربيع، وقيل: بسبب جابر بن عبد الله، إذ عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه؛ ورفَعت ما كان في الجاهلية من ترك توريث النساء والأطفال. وقيل: نُسخت الوصية للوالدين والأقربين. وإنما قال: {يوصيكم} بلفظ الفعل الدائم، ولم يقل: أوصاكم، تنبيهًا على نسخ ما مضى، والشروع في حكم آخر، وإنما قال: {يوصيكم} بالاسم الظاهر، أي: {الله} ولم يقل: نوصيكم، لأنه أراد تعظيم الوصية، فجاء بالاسم الذي هو أعظم الأسماء، وإنما قال: {في أولادكم} ولم يقل: في أبنائكم؛ لأن الابن يقع على الابن من الرضاعة، وعلى ابن البنت، وعلى الابن المتبنى، وليسوا من الورثة، فإن قيل: هلاّ قال: للأنثيين مثل حظ الذَّكر، أو للأنثى نصف حظ الذَّكر؟، فالجواب، أنه بدأ بالذَّكَرِ لفضله، ولأن القصد ذكُر حظه، ولو قال للأنثيين مثل حظ الذكر لكان فيه تفضيل للإناث. ه. الأشارة: كما أوصى الله تعالى في أولاد البشرية، أوصى على أولاد الروحانية، ويقع التفضيل في قسمة الإمداد على حسب التعظيم والمحبة والعطف من الشيخ، فبقدر ما يقع في قلب الشيخ، يسري إليه المدد، فقد يأخذ مثل حظ رجلين أو أكثر، على حسب ما سبق من القسمة الأزلية. والله تعالى أعلم. ثم ذكر حكم البنات إذا انفردن، فقال: {... فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ...} قلت: أنث الضمير {كنّ} باعتبار الخبر، أو يعود على المتروكات، وما قاله الزمخشري بعيد. ومن قرأ {واحدةُ} بالرفع، ففاعل كان التامة، ومن قرأ بالنصب فخبر كان. يقول الحقّ جلّ جلاله: فإن كان المتروك من الأولاد {نساء} ليس معهن ذكور {فوق اثنتين} أي: اثنتين فما فوق، {فلهن ثلثا ما ترك}، والباقي للعاصب، وأخذ ابن عباس بظاهر الآية، فأعطاهما النصف كالواحدة، والجمهور على خلافه، وأن لفظ {فوق} زائدة كقوله {فاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاِق} [الأنفال: 12]، وقيل: أخذ الثلثين بالسُنة، وإن {كانت} بنتًا {واحدة فلها النصف}، والباقي للعاصب، وفيه دليل على أن الابن يأخذ جميع المال إذا انفرد؛ لأن له مثل حظ الأنثيين. الإشارة: انظر البنت، إذا انفردت أخذت النصف، وإذا اجتمعت مع غيرها نقص لها، كذلك أمداد الأشياخ، من انفرد عددهم وحده، أخذ أكثر مما إذا اجتمع مع غيره، لانجماع نظر الشيخ إليه، وكان شيخنا رضي الله عنه يقول له شيخه: ما زال يأتيك الرجال أي: إخوانك من الفقراء وكان وحده، فيقول له: الله لا يجعل أحدًا يأتي حتى نشبع. وكذلك أيضًا، انفراد العبد بالعبادة، في وقت الغفلة، مددها أعظم من كونه مع غيره، كالمجاهد خلف الفارين. وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: «طوُبَى للغُرَبَاءِ» والله تعالى أعلم. ثم ذكرت ميراث الأبوين، فقال: {... وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ...} قلت: {السدس} مبتدأ، و{لأبويه} خبر، {لكل واحد}، بدل من {أبويه}، ونكتة البدل إفادة أنهما لا يشتركان في السدس، ولو قال: لأبوَيْه السدس؛ لأوهم الاشتراك. يقول الحقّ جلّ جلاله: إذا مات الولد، وترك أبويه، فلكل {واحد منهما السدس إن كان له ولد} ذكرًا أو أنثى، واحدًا أو متعددًا، للصلب أو ولد ابن، فكلهم يَردُّون الأبوين للسدس، {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه} فقط، {فلأمه الثلث}، والباقي للأب، {فإن كان له أخوة}، أي: أخَوَان فأكثر، سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم، أو مختلفين، {فلأمه السدس}، والباقي للأب، ولا شيء للأخوة معه. وأخذ ابن عباس بظاهر الآية. فلم يحجبها للسدس باثنين، وجعلها كالواحد، واحتج بأن لفظ الإخوة جمع، وأقله ثلاثة، وأجيب بأن لفظ الجمع، يقع على الاثنين كقوله {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78]، {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [صَ: 21]، ولقوله صلى الله عليه وسلم «الاثْنَانِ فَما فَوْقَهمَا جَمَاعَةٌ» وهذا كله، بعد إخراج الوصية وقضاء الدين، وإنما قدّم الحق تعالى الوصية على الدَّين، مع كون الدّين مقدمًا في القضاء من رأس المال؛ لأن أرباب الدّين أقوياء، بخلاف الموصى لهم، فقدمهم اعتناء بهم. الإشارة: الروح كالأب، والبشرية كالأم، وعقد الصحبة مع الشيخ كالولد، فأن كان الإنسان له صحبة مع شيخ التربية، يعني له ورد منه، فالبشرية والروحانية سواء، إذ كلاهما يتهذبان ويتنوران بالأدب والمعرفة؛ الأدب للبشرية، والمعرفة للروحانية، إذ استمد بالطاعة الظاهرُ استمد الباطن، وبالعكس، وأن لم يكن عقد الصحبة موجودًا كان ميراث البشرية من الحس أقوى كميراث الأم مع فقد الولد، أو تقول: الإنسان مركب من حس ومعنى، فالحس كالأم، والمعنى كالأب، لأن المعاني قائمة بالحس، والروح تستمد منها معًا، فهي كالولد بينهما، فإن كانت الروح حية بوجود المعرفة، استمدت منهما معًا، وإن كانت ميتة، كان استمدادها من الحس أكثر، كموت الولد في ميراث الأم. أو تقول: الإنسان بين قدرة وحكمة، القدرة كالأب، والحكمة كالأم، والقلب بينهما كالولد، فإِنْ وُجد القلب استمدت الروح من القدرة والحكمة، واستوى نظرها فيهما. وإن فقد القلب غلب على الروح ميراث الحكمة، كفَقْدِ الولد في ميراث الأم، وإن كان للقلب أخوة من الأنوار والأسرار بهما فللروح من ميراث الحكمة السدس، والباقي كله للقدرة، ولا يعرف هذا إلا من حقق معرفة القدرة والحكمة، ذوقًا وكشفًا، وإلاَّ.. فليسلُم لأهل المعرفة. والله تعالى أعلم. ثم ذكر الحق تعالى حكمة تقسيم تركة الأب والابن على ما فرض، وأن ذلك لا يعلمه إلا هو: فقال: {... آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} يقول الحقّ جلّ جلاله: قد بينت لكم ما يرثُ الأبُ من ابنه، وما يرث الولدُ من أبيه، ولو وكلت ذلك إليكم لأفسدتم القسمة؛ لأنكم {لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا} للأخر، هل الأب أقرب نفعًا لابنه، فتعطوه الميراث كله دون ولد الميت، أو الولد أقرب نفعًا لأبيه، من الأب لابنه، فتخصونه بالإرث، ففرضتُ ميران الأب وميراث الولد، ولم نكل ذلك إليكم. {فريضة} حاصلة {من الله}، {إن الله كان عليمًا} بمصالح العباد {حكيمًا} بما فرض وقدَّر. وقال ابن عباس: لا تدرون أيهم أطوع لله عز وجل من الآباء والأبناء، وأرفعكم درجة يوم القيامة، لأن الله تعالى يشفع المؤمنين في بعضهم بعضًا، فيشفع الولد في والديه، إن كان أرفع درجة منهما، فيرفعهما الله إليه، ويشفع الوالدين في ولدهما، إن كانا أرفع درجة منه، فيرتفع إليهما لتقر بذلك أعينهما، ه. بالمعنى. الإشارة: الإنسان لا تقوم روحانيته إلا ببشريته، إلا بروحانيته، فلا يدري أيهما أقرب له نفعًا، لأن البشرية محل للعبودية، والروحانية محل لشهود عظمة الربوبية، ولا بد للجمع بينهما، وكذلك الحس، لا يقوم إلا بالمعنى، والمعنى لا يقوم إلا بالحس، فلا تدري أيهما أقرب نفعًا لك أيها المريد، فتؤثره، وإن كانت المعاني هي المقصودة بالسير، لكن لا تقوم إلا بوجود الحس، فلا بد من ملاحظته. وقال الورتجبي هنا ما نصه: أشكل الأمر من تلك الطائفتين، أيهم يبلغ درجة الولاية والمعرفة الموجبة مشاهدة الله وقربته، التي لو وقعت ذرة منها لأحد من هذه الأمة لينجو بشفاعته سبعون الفًا بغير حساب، أي: اخدموا آباءكم وارحموا أولادكم، فربما يخرج منهم صاحب الولاية، ليشفع لكم عند الله تعالى، وحكمة الإبهام ههنا؛ ليشمل الرحمة والشفقة على الجمهور، لتوقع ذلك الولي الصادق. ه. قلت: فسر الآباء والأبناء بالحسيين، وتشمل الآية أيضًا الآباء والأبناء المعنويين والروحانيين. والله تعالى أعلم.
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)} {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ...} يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولكم} أيها الأزواج، من ميراث أزواجكم {نصف} ما تركن {إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد} وارث، ذكرًا أو أنثى، مفردًا أو متعددًا، من بطنها أو من صلب بنيها أو بني بنيها وإن سفل، منكم أو من غيركم، {فلكم الربع مما تركن}، بعد قضاء الدين وإخراج الوصية. {ولهن} أي: الزوجات من ميراث الزوج {الربع} مما ترك {إن لم يكن} له ولد لا حق، ذكرًا أو أنثى، على وزان ما تقدم في الزوجة، {فإن كان لكم ولد فلهن الثمن} تنفرد به إن كانت واحدة، ويُقسم بينهن إن تعددن، ولا ينقص لأهل السهام مما فرض الله لهم إلا ما نقصه العَوْل على مذهب الجمهور، خلافًا لابن عباس، فإنه لا يقول بالعول. فإن قيل: لِمَ كرر قوله: {من بعد وصية} مع ميراث الزوج وميراث الزوجة، ولم يذكره قبل ذلك إلا مرة واحدة في ميراث الأولاد والأبوين؟ فالجواب: أن الموروث في ميراث الزوج هو الزوجة، والموروث في ميراث الزوجة هو الزوج، فكل واحدة قضية مستقلة، فلذلك ذكر مع كل واحدة، بخلاف الأول؛ فأن الموروث فيه واحد، ذكرَ حكم ما يرث منه أولاده وأبواه، وهي قضية واحدة، فلذلك قال فيه: {من بعد وصية} مرة واحدة. قاله ابن جزي. قال البيضاوي: فرض للرجل بحق الزواج ضِعف ما للمرأة كما في النسب، وهكذا قياس كل رجل وامرأة، إذا اشتركا في الجهة والقرب، ولا يستثنى منه إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة. ه. الأشارة: إذا ماتت النفس، ولم تبق لها بقية، وورثت الروحُ ما كان لها من العلوم الكسبية: النقلية والعقلية، وأضافته إلى مَالهَا من العلوم الوهبية، فانقلب الجميع وهبيًا، قال بعض شيوخ أشياخنا: (كنت أعرف أربعة عشر علمًا، فلما دخلت علم الحقيقة شرطت ذلك كله، فلم يبقى إلا الكتاب والسنة)، أو كما قال: وقال أبو سليمان الداراني: إذا اعتقدت النفوس على ترك الآثام، جالت في الملكوت، ثم عادت إلى صاحبها بطرائف العلوم، من غير أن يؤدي إليها عالمٌ علمًا. فإن بقي للنفس بقية، نقص ميراث الروح منها، بقدر البقية، كما أن الزوج ينقص ميراثه مع الفرع، وكذلك إذا ماتت الروح بالرجوع عن طريق الجِد، ورثت النفسُ ما كان لها من العلوم الوهبية، والمعاني والأسرار القدسية، فتأكلها، وتردها نقلية حسية، بعد أن كانت وهبية ذوقية، فتتحسس المعاني، وتتكثف الأواني. والعياذ بالله من السلب بعد العطاء، إلا أن ميراث النفس من الروح أقوى، فإن بقي للروح شيء من الحياة، نقص ميراث النفس منها، كنقص الزوجة مع الفرع من ميراث الزوج، والله تعالى أعلم. ثم ذكر ميراث الأخ للأخ، فقال: {... وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} قلت: الكلالة: انقطاع النسل، بحيث لم يبقى للميت فرع ولا أصل، لا ذكر ولا أنثى، وهو مصدر من تَكَلَّلهُ النسبُ، إذا أحاط به كالإكليل، لأن ورثته أحاطوا به ولَيْسوا منه. ونظم بعضهم معنى الكلالة، فقال: إن امرؤٌ يَسْأَلُ عن كَلاَلَة *** هو انْقِطاعُ النَّسْلِ لآ مَحَاله لا والدُ يَبْقَى ولا مولوُد *** قدْ هَلَكَ الأبْنَاءُ والجُدُود فتحتمل أن تطلق هنا على الميت، أو على الورثة، أو على الوراثة، أو على القرابة أو على المال. فإن كانت على الميت، فإعرابه خبر كان، و{يورث} صفة، أو {يورث} خبر كان، و{كلالة} حال من الضمير في {يورث}، أو «كان» تامة، و{يورث} صفة و{كلالة} حال من الضمير. وإن كانت على الورثة، فهو خبر كان، على حذف مضاف؛ أي: ذا كلالة، وإن كانت الوِرَاثة فهو مصدر في موضع الحال، وإن كانت القرابة، فهو مفعول من أجله، أي: يورث من أجل القرابة. وإن كانت للمال، فهو مفعول ثانِ ليورث، وكل من هذه يحتمل أن تكون «كان» تامة أو ناقصة. قاله ابن جزي. و{غير مضار}، منصوب على الحال، أو العامل فيه {يوصى}، و{مضار} أسم فاعل، ووصية: مصدر ليوصي، أو مفعول {مضار}. يقول الحقّ جلّ جلاله: وإن كان الميث رجلاً أو امرأة، يُورثان كلالة، بحيث لا فرع لهما ولا أصل، قد انقطع عمود نسبهما، ولهما أخ أو أخت لأم {فلكل واحد منهما السدس}. {فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث}، الذكر والأنثى سواء، لأن الإدلاء للميت بمحض الأنوثة، ومفهوم الآية: أنهما لا يرثان مع الأم والجدة، كما لا يرثان مع البنت وبنت الابن، إذ ليس حينئذٍ بكلالة، وإنما قيدنا الأخ والأخت بكونهما للأم لأن الأخ الشقيق أو للأب سيأتي في آخر السورة. والأخت تقدم أنَّ لها النصف، وأيضًا: قد قرأ سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود،: «وله أخ أو أخت لأم». وهذا كله {من بعد وصية يوصى بها أو دين} حال كونه {غير مُضارٍ} في الوصية أو الدين، كالوصية بأكثر من الثلث، أو للوارث، أو فِرارًا منه، فإن عُلِم أنه قصد الإضرار، رد ما زاد على الثلث، واختلف في رد الثلث على قولين. قاله ابن جزي. {وصيًة من الله}، أي: نوصيكم وصية، أو غير مضار وصية من الله. قال ابن عباس: (الإضرار في الوصية من الكبائر). {والله عليم} بمصالح عباده، يقسم المال على حسب المصلحة، {حليم} لا يعاجل بالعقوبة من خالف حدوده. الإشارة: اعلم أن الأخوة في الشيخ كالأخوة في النسب، لأنهم يرضعون من ثدي واحدة ولبن واحد، فإن مات أحدهم، ورث أخوه المدد الذي كان يأخذه من شيخه، وكذا إذا رجع فإنه موت فينقلب المدد إلى أخيه، ومثاله كماء فُرِّقَ على قواديس، فإذا انسدت إحدى القواديس رجع الماء إلى الأخرى، فإن كانوا أكثر من واحد فهم شركاء في ذلك المدد، والله تعالى أعلم.
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} قلت: توحيد الضمير في {نُدخله} مراعاة للفظ {من}. وجمع الحال في {خالدين} مراعاة للمعنى. و{خالدين} و{خالدًا}: حال مقدرة من ضمير {نُدخله}، كقولك، كقولك: مررت برجل معه صقر صائدًا به غدًا، وليسا صفتين لجنات ونارًا، وإلا لوجب إبراز الضمير؛ لأنهما جرتا على غير مَنْ هُمَا له. يقول الحقّ جلّ جلاله: {تلك} الأحكام التي شرعناها لكم في أمر الوصايا والمواريث، هي {حدود الله} حدَّها لكم لتقفوا معها ولا تتعدوها {ومن يطع الله} فيما أمر به وحدّه {ورسوله} فيما شرَّعه وسنَّه {ندخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز} أي: الفلاح {العظيم}، {ومن يعص الله} فيما أمر ونهى، {ورسوله} فيما شرعه، {ويتعدّ حدوده} التي حدها، فتجاوز إلى متابعة هواه، {ندخله نارًا خالدًا فيها وله عذاب مهين}. وهذا إذا أنكر مشروعيتها فيكون كافرًا، وإلاَّ كان عاصيًا في حكم المشيئة، ومذهب أهل السنة أنه لا يخلد، وحملوا الآية على الكافر، أو عبارة عن طول المدة، كما في قاتل النفس. والله أعلم. الإشارة: قد حدَّ الحق جل جلاله لأهل الشريعة الظاهرة حدودًا قام ببيانها العلماء، وحدَّ لأهل الحقيقة وهي سر الولاية حدودًا، قام بها الأولياء، فمن قام بحدود الشريعة الظاهرة كان من المؤمنين الصالحين، ومن تعداها كان من العاصين الظالمين، ومن قام بحدود الحقيقة الباطنية، وصحب أهلها كان المحسنين العارفين المقربين، ودخل جنة المعارف، ومن تعدَّ حدود الحقيقة، أو لم يصحب أهلها كان من عوام أهل اليمين، وله عذاب الحجاب في غم الحساب، وقال في الحاشية: في حد حدوده إشارة للعبودية، في إخراج كل عن نظره واختياره، ثم انقياده وذلته لحكم ربه، والوقوف عند حدوده. وقال الورتجبي: قيل: {تلك حدود الله} أي: الإظهار من الأحوال للمريدين على حسب طاقتهم لها، فإن التعدي فيها يهلكهم، وقال أبو عثمان: ما هلك امرؤ لزم حده ولم يتعد طوره. ه. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)} يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} النساء {اللاتي يأتين الفاحشة} أي: الزنى، سُمِّيَ فاحشة لفُحش قبحه وبشاعة فعله شرعًا، {من نسائكم} المسلمات، {فاستشهدوا عليهن} أي: اطلبوا مَنْ رَمَاهُنَّ بذلك أن يُشْهِدوا {عليهن أربعة منكم}، أي: من عدول المؤمنين يرونهما كالمرود في المكحلة، وإنما جعلوا أربعة مبالغة في الستر على المؤمن، أو ليكون على كل حال واحد اثنان، {فإن شهدوا} عليهن بذلك {فأمسكوهن في البيوت}، واجعلوه سجنًا لهن {حتى يتوفاهن الموت} أي: يستوفي أجلّهن الموتُ، أو يتوفاهن ملك الموت، {أو يجعل الله لهن سبيلاً} كتعيين الحد المخلّص من السجن، وكان هذا في أول الإسلام ثم نُسخ بما في سورة النور من الحدود، ويحتمل أن يراد التوصية بإمساكهن بعد أن يُجلدن كي لا يَعُدْن إلى الزنى بسبب الخروج والتعرض للرجال. واكتفى بذكر حدِّهن، بما في سورة النور، وهذا الإمساك كان خاصًا بالنساء بدليل قوله {واللذان يأتيانها منكم} أي: الزاني والزانية منكم، {فآذوهما} بالتوبيخ والتقريع {فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} أي: اقطعوا عنهما الأذى، أو أعرِضوا عنهما بالإغماض عن ذكر مساوئهما. قيل: إن هذه الآية سابقة على الأولى نزولاً، وكان عقوبة الزنى الأذى ثم الحبس ثم الجلد، وقيل، الحبس في المساحقات، والإيذاء في اللواطين، وما في سورة النور في الزناة. والذي يظهر. أن الحكم كان في أول الإسلام في الزنا: الإمساك للنساء في البيوت بعد الإيذاء بالتوبيخ، فتُمسك في بيتها حتى تموت، أو يجعل الله لها سبيلاً بالتزوج بمن يعفها عنه. والإيذاء للرجال بالتعيير والتقريع والتحجيم حتى تتحقق توبته، ثم نسخ ذلك كله بالحدود، وهو جَلْد البكر مائة وتغريبة عامًا ورجم المحصن. والله تعالى أعلم. الإشارة: ينبغي للعبد، إذا طَغَتْ عليه نفسُه، وأرادت ارتكاب الفواحش، أن يستشهد عليها الحفظة، الذين يحفظون عليه تلك المعاصي، فإن لم تستحِ، فليعاقبها بالحبس في سجن الجوع والخلوة والصمت، حتى تموت عن تلك الشهوات، أو يجعل الله لها طريقًا بالوصول إلى شيخ يُغيِّبه عنها، أو بوارد قوي من خوف مزعج أو شوق مقلق، فإن تابت وأصلحت، أعرض عنها واشتغل بذكر الله، ثم يغيب عما سواه. وبالله التوفيق.
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} يقول الحقّ جلّ جلاله: {إنما التوبة} التي يُستحق {على الله} قبولُها فضلاً وإحسانًا هي {للذين يعملون السوء} أي: المعاصي متلبسين {بجهالة} أي: سفاهة وجهل وسوء أدب، فكل من اشتغل بالمعصية فهو جاهل بالله، قد انتزع منه الإيمان حتى يفرغ، وإن كان عالمًا بكونها معصية، {ثم يتوبون} بعد تلك المعصية {من قريب} أي: من زمن قريب، وهو قبل حضور الموت؛ لقوله بعدُ: {حتى إذا حضر أحدهم الموت}، وقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله يقبلُ توبةَّ العبْدِ مَا لمْ يُغَرْغِرُ» وإنما جعله قريبًا لأن الدنيا سريعة الزوال، متاعها قليل وزمانها قريب، {فأولئك يتوب الله عليهم} تصديقاً لوعده المتقدم، {وكان الله عليمًا} بإخلاصهم التوبة، {حكيمًا} في ترك معاقبة التائب، إذ الحكمة هي وضع الشيء في محله. وعن الحسن: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «لما أُهبط إبليسُ قال: وعزتك وعظمتك لا أفارق ابنَ آدم حتى تفارقَ روحُه جسدَه، قال الله تعالى: وعزتي وعظمتي لا أحجب التوبة عن عبدي حتى يغرغر بها» وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الشيطانَ قال: وعزتِك لا أبرح أُغوى عبادكَ، ما دامتْ أرواحهم في أجسادهم. قال الله تعالى: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني». قال ابن جزي: وإذا تاب العبد توبة صحيحة بشروطها، فيُقطع بقبول توبت عند جمهور العلماء. وقال أبو المعالي: يَغُلِب ذلك على الظن ولا يقعطع. ه. {وليست التوبة} مقبولة {للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت} أي: بلغت الحلقوم {قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار} فلا توبة لهم، {أولئك أعتدنا} أي: أعددنا وهيأنا {لهم عذابًا أليما}، قال البيضاوي: سوَّى الحقُ تعالى بين من سوَّف التوبة إلى حضور الموت من الفسقة، وبين من مات على الكفر في نفي التوبة؛ للمبالغة في عدم الاعتداد به في تلك الحالة، وكأنه يقول: توبة هؤلاء وعدم توبة هؤلاء سواء. وقيل: المراد بالذين يعملون السوء: عصاة المؤمنين، وبالذين يعملون السيئات: المنافقون؛ لتضاعف كفرهم، وبالذين يموتون: الكفار. ه. الإشارة: توبة العوام ليست كتوبة الخواص، إنَّ الله يمهل العوام ترغيبًا لهم في الرجوع، ويُعاقب الخواص على التأخير على قدر مقامهم في القرب من الحضرة، فكلما عظُم القربُ عظمت المحاسبة على ترك المراقبة، منهم من يسامح له في لحظة، ومنهم في ساعة، ومنهم في ساعتين، على قدر المقام، ثم يُعاتبهم ويردهم إلى الحضرة. وقال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي في حاشيته: {إنما التوبة على الله} أي: إنما الهداية بعد الذلة، على الله؛ لأنه الذي يُخلص من قَهْره بكرمه الفياض وبرحمته التي غلبت غضبه، كما قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىَ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعَام: 54]، ونبه على وقوع الذنب بهم قهرًا، ثم تداركهم بالهداية والإنابة، فضلاً على علمه بتربيتهم وتدريجهم لمعرفته بالعلم والحكمة بقوله: {وكان الله عليمًا حكيمًا}.
|